اليوم هو أول يوم لي في حياتي الجامعية.
اليوم أخطو أولى خطواتي نحو حلمي الذي طالما تمنيت.
اليوم تدبُّ قدمي كلية الفنون الجميلة، المكان الذي كنت أتطلع إلى دخوله منذ نعومة أظافري، الطموح الذي وضعته نصب عيني لسنوات طوال، التجربة التي رغبت طول حياتي أن أعيشها.
اليوم لا يسع الكون جناحيَّ، سهرت طول الليل أتخيل مسار اليوم، أنسق ما سأرتدي، وأختار -بعناية- مقتنيات حقيبتي.
استيقظت باكرًا يغمرني الحماس، أتطلع لحياة مختلفة، أصدقاء جدد، أماكن مميزة، علاقات متشعبة.
كان القطار هو الوسيلة المُثلى للوصول إلى الجامعة، حذرتني أمي من السهو فيه ولو للحظة، وترجتني أن أخفض سقف توقعاتي عن الرحلة.
كانت المرة الأولى التي أرتاد فيها قطارًا، لكنها لم تكن الأخيرة، ورغم ثقتي في كلام والدتي، إلا أن الواقع كان أسوأ مما اعتقدت.
عربات مهلهلة دون أبواب أو شبابيك، مزدحمة حتى أن الناس تتدلى من أبوابها، ويجلس البعض منهم مكان الحقائب، ومَنْ يحظى منهم بكرسي ينقم بحمل حقائب الواقفين، أو يصبح مسؤولاً عن أحد الرضع الموجودين.
لم أستطع أن أخطُ داخل القطار، كنت أقف على الرصيف حينما وصل ثم تدافع الناس ولم أقترب منهم، بل تراجعت خشية السقوط من شدة الازدحام، واخترت أن أحتفظ بأناقتي على أن ألحق محاضرتي.
سألت الموظف في شباك التذاكر عن موعد القطار التالي، فأخبرني أنه بعد ساعة، فجلست على أحد المقاعد أتأمل المارة.
جرت العادة أن أرسم رواية لكل مَنْ أرى، تميل للأسى كي أتذكر نِعم الله عليَّ.
أقبلت سيدة تحمل رضيعتها النائمة على كتفها وجلست بجانبي، بدا من ثيابها الرثة تواضع حالتها، توقعت أن زوجها لا يعطيها ما يكفي من المال لتحسن من مظهرها، ولفت انتباهي جمال ابنتها التي لم تكن أبدًا تشبهها، ربما تميل في الشبه لأبيها أو لأحد أقاربها، سألت نفسي لِمَ يا تُرى خرجت السيدة في هذا الوقت المبكر؟ لِمَ لم تنتظر حتى تستيقظ الطفلة على راحتها؟ بخاصةٍ أن الصغيرة كانت تغط في نوم عميق.
التمست لها العذر، ربما هي على موعد مع أحد الأقارب المسافرين، أو هنالك موعد في المشفى -عافانا الله-، أو ربما تعمل في أحد البيوت لكسب لقمة العيش، أو يا للهول! ربما تكون شحاذة تستعطف الناس بطفلة مخطوفة!
نظرت إلى جانبي فرأيت شابًّا منهمكًا في قراءة الجريدة، هل هو مثقف كفاية حتى أنه لا يضيع وقتًا مستغلاً انتظاره؟ أم يبحث مثلاً عن وظيفة مناسبة له؟ أم أنه فقط يحل الكلمات المتقاطعة تسلية لفراغه؟
قطع حبل أفكاري صوت رجل يسبُّ مديره بصوت عالٍ، لم أكن بحاجة للتخمين فكلامه كان واضحًا، وكان برفقته زوجته الأنيقة.
بدا أنهم في طريقهم لقضاء إجازة ما، وكان كبر حجم حقائبهم يدل على امتدادها، أو أن الزوجة قد اكتفت بإحضار أهم الأشياء فقط، كما بدا أن ذاك المدير المتعجرف سيعكر صفوهم.
بدأ الرصيف يعج بالناس، وبدأ مقعدي يزداد في الازدحام، وشرعت تتعالى أصوات العامة، الذين يتعرفون إلى بعضهم في هذه الدقيقة ثم يتحدثون كأنهم يعرفون بعضهم منذ زمن في الدقيقة التالية، وبدأت أنكمش في جلستي، وأتظاهر بانشغالي بهاتفي، كي لا يتسنى لأحدهم فرصة لتوجيه الحديث لي، فأنا أعاني من الرهاب الاجتماعي، وأخشى مواجهة الجدد.
وصل القطار، وكان مزدحمًا أيضًا، لكن أقل بقليل من المرة السابقة، وضعت قدمي بداخله، وبدأت مغامرة أخرى.